فصل: تفسير الآية رقم (161):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (155):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
{إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} وهم الذين انهزموا يومَ أحُدٍ حسبما مرت حكايتُهم {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} أي إنما كان سببَ انهزامِهم أن الشيطانَ طلب منهم الزللَ {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من الذنوب والمعاصي التي هي مخالفةُ أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتركُ المركزِ والحِرصُ على الغنيمة أو الحياةِ، فحُرِموا التأييدَ وقوةَ القلب، وقيل: استزلالُ الشيطانِ تولِّيهم وذلك بذنوب تقدمت لهم فإن المعاصيَ يجُرّ بعضُها إلى بعض كالطاعة، وقيل: استزلّهم بذنوب سبَقتْ منهم وكرِهوا القتلَ قبل إخلاصِ التوبةِ والخروجِ من المظلِمة {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} لتوبتهم واعتذارِهم {أَنَّ الله غَفُورٌ} للذنوب {حَلِيمٌ} لا يعاجل بعقوبة المذنبِ ليتوب، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها على سبيل التحقيق، وفي إظهار الجلالةِ تربيةٌ للمهابة وتأكيدٌ للتعليل.

.تفسير الآية رقم (156):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} وهم المنافقون القائلون: لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا، وإنما ذُكر في صدر الصلةِ كفرُهم تصريحاً بمباينة حالِهم لحال المؤمنين، وتنفيراً عن مماثلتهم آثِرَ ذي أثيرٍ، وقولُه تعالى: {وَقَالُواْ لإخوانهم} تعيينٌ لوجه الشبهِ والمماثلةِ التي نُهوا عنها أي قالوا لأجلهم وفي حقهم، ومعنى أُخوّتِهم اتفاقُهم نسباً أو مذهباً {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الارض} أي سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرِها، وإيثارُ إذا المفيدةِ لمعنى الاستقبالِ على إذا المفيدةِ لمعنى المُضيِّ لحكاية الحالِ الماضيةِ إذِ المرادُ بها الزمانُ المستمرُّ المنتظمُ للحال الذي عليه يدور أمرُ استحضارِ الصورة. قال الزجاج: إذا هاهنا تنوبُ عما مضى من الزمان وما يُستقبل يعني أنها لمجرد الوقتِ أو يُقصد بها الاستمرارُ، وظرفيتُها لقولهم إنما هي باعتبار ما وقع فيها بل التحقيقُ أنها ظرفٌ له لا لقولهم، كأنه قيل: قالوا لأجل ما أصاب إخوانَهم حين ضربوا الخ، {أَوْ كَانُواْ} أي إخوانُهم {غُزّاً} جمعُ غازٍ كعُفّىً جمعُ عافٍ، قال:
ومُغْبّرةِ الآفاقِ خاشعةِ الصُّوى ** لها قلب عفى الحياض أجون

وقرئ بتخفيف الزاي على حذف التاء من غُزاة، وإفرادُ كونِهم غُزاةً بالذكر مع اندراجه تحت الضربِ في الأرض لأنه المقصودُ بيانُه في المقام، وذكرُ الضربِ في الأرض توطئةٌ له، وتقديمُه لكثرة وقوعِه على أنه قد يوجد بدون الضربِ في الأرض إذ المرادُ به السفرُ البعيدُ، وإنما لم يقُلْ أو غَزَوْاً للإيذان باستمرار اتصافِهم بعنوان كونِهم غزاةً أو بانقضاء ذلك، أي كانوا غُزّاً فيما مضى، وقولُه تعالى: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} أي مقيمين {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} مفعولٌ لقالوا دليلٌ على أن هناك مضمَراً قد حُذف ثقةً به أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزّاً فقُتلوا، وليس المقصودُ بالنهي عدمَ مماثلتِهم في النطق بهذا القولِ بل في الاعتقاد بمضمونه والحُكمِ بموجبه كما أنه المنكرُ على قائليه، ألا يُرى إلى قوله عز وجل: {لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} فإنه الذي جُعل حسرةً فيها قطعاً وإليه أشير بذلك كما نقل عن الزجاج أنه إشارةٌ إلى ظنهم أنهم لو لم يحضُروا القتالَ لم يُقتلوا، وتعلّقُه بقالوا ليس باعتبار نطقِهم بذلك القولِ بل باعتبار ما فيه من الحُكم والاعتقاد، واللامُ لامُ للعاقبة كما في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرةً في قلوبهم، والمرادُ بالتعليل المذكورِ بيانُ عدمِ ترتُّبِ فائدةٍ ما على ذلك أصلاً، وقيل: هو تعليلٌ للنهي بمعنى لا تكونوا مثلَهم في النطق بذلك القولِ واعتقادِه ليجعلَه الله تعالى حسرةً في قلوبهم خاصة ويصونَ منها قلوبَكم، فذلك كما مر إشارةٌ إلى ما دل عليه قولُهم من الاعتقاد ويجوز أن يكون إشارةً إلى ما دل عليه النهيُ أي لا تكونوا مثلَهم ليجعل الله انتفاءَ كونِكم مثلَهم حسرةً في قلوبهم فإن مضادّتَكم لهم في القول والاعتقادِ مما يغُمُّهم ويَغيظهم {والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ} ردٌّ لباطلهم إثرَ بيانِ غائلتِه أي هو المؤثِّرُ في الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخلٌ في ذلك فإنه تعالى قد يُحيي المسافرَ والغازيَ مع اقتحامهما لموارد الحتوفِ ويُميتُ المقيمَ والقاعدَ مع حيازتهما لأسباب السلامة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تهديدٌ للمؤمنين على أن يماثلوهم، وقرئ بالياء على أنه وعيدٌ للذين كفروا، و{مَا يَعْمَلُونَ} عامٌ متناولٌ لقولهم المذكورِ ولِمُنشئه الذي هو اعتقادُهم، ولما ترتب على ذلك من الأعمال، ولذلك تعرَّض لعنوان البَصَر لا لعنوان السمعِ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرَّوْعةِ والمبالغةِ في التهديد والتشديدِ في الوعيد.

.تفسير الآيات (157- 158):

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ} شروعٌ في تحقيق أن ما يحذرون ترتُّبَه على الغزو والسفر من القتل والموتِ في سبيل الله تعالى ليس مما ينبغي أن يُحذر، بل مما يجب أن يتنافسَ فيه المتنافسون إثرَ إبطالِ ترتُّبِه عليهما، واللامُ هي الموطئةُ للقسم واللام في قوله تعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ} لامُ الابتداء، والتنوينُ في الموضعين للتقليل، ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً للمبتدأ، وقد حُذفت صفةُ رحمةٌ لدِلالة المذكورِ عليها، والجملةُ جوابٌ للقسم سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ والمعنى أن السفرَ والغزوَ ليس مما يجلُب الموتَ ويقدّم الأجلَ أصلاً ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحةٌ يسيرةٌ من مغفرة ورحمةً كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي الكفرةُ من منافعِ الدنيا وطيّباتها مدةَ أعمارِهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما خيرٌ من طِلاع الأرضِ ذَهَبةً حمراءَ. وقرئ بالتاء أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا، والاقتصارُ على بيان خيريتِهما من ذلك بلا تعرّضٍ للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجةِ إليه بناءً على استحالة التخييبِ منه تعالى بعد الإطماعِ وقد قيل: لابد من حذفٍ آخَرَ أي لمغفرةٌ لكم من الله الخ، وحينئذ يكون أيضاً إخراجُ المقدَّرِ مُخرَجَ الصفةِ دون الخبر لنحو ما ذُكر من ادعاء الظهورِ والغِنى عن الإخبار به، وتغييرُ الترتيب الواقعِ في قولهم: ما ماتوا وما قتلوا المبنيِّ على كثرة الوقوعِ وقلته للمبالغة في الترغيب في الجهاد ببيان زيادةِ مزيةِ القتلِ في سبيل الله وإنافتِه في استجلاب المغفرةِ والرحمةِ، وفيه دَلالةٌ واضحةٌ على ما مر من أن المقصودَ بالنهي إنما هو عدمُ مماثلتِهم في الاعتقاد بمضمون القولِ المذكورِ والعملِ بموجبه لا في النطق به وإضلالِ الناسِ به.
{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} أي على أيِّ وجهٍ اتفق هلاكُكم حسب تعلُّقِ الإرادةِ الإلهية وقرئ {مِتّم} بكسر الميمِ من مات {لإِلَى الله} أي إلى المعبود بالحق العظيمِ الشأنِ الواسعِ الرحمةِ الجزيلِ الإحسانِ {تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره فيوفيكم أجورَكم ويُجزِل عطاءَكم، والكلام في لامَي الجملة كما مر في أختها.

.تفسير الآيات (159- 160):

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والفاءُ لترتيب مضمونِ الكلامِ على ما يُنبىء عنه السياقُ من استحقاقهم لِلاّئمة والتعنيفِ بموجب الجِبلَّةِ البشرية، أو من سَعة ساحةِ مغفرتِه تعالى ورحمتِه، والباءُ متعلِّقة بلنتَ قُدِّمت عليه للقصر، وما مزيدةٌ للتوكيد، أو نكرةٌ و{رَحْمَةً} بدلٌ منها مُبينٌ لإبهامها، والتنوينُ للتفخيم ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لرحمةٍ أي فبرحمةٍ عظيمة لهم كائنةٍ من الله تعالى، وهي ربطُه على جأشه وتخصيصُه بمكارم الأخلاقِ، كنتَ ليِّنَ الجانبِ لهم وعامَلْتَهم بالرفق والتلطّفِ بهم حيث اغتمَمْتَ لهم بعد ما كان منهم ما كان من مخالفة أمرِك وإسلامِك للعدو.
{وَلَوْ} لم تكن كذلك بل {كُنْتَ فَظّاً} جافياً في المعاشرة قولاً وفعلاً، وقال الراغبُ: الفَظُّ هو الكَرِيهُ الخلُقِ. وقال الواحديُّ: هو الغليظُ الجانبِ السيءُ الخلُق {غَلِيظَ القلب} قاسِيَه، وقال الكلبي: فظَّاً في القول غليظَ القلبِ في الفعل، {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لَتفرَّقوا من عندك ولم يسكُنوا إليك وتردَّوْا في مهاوي الردى والفاء في قوله عز وجل: {فاعف عَنْهُمْ} لترتيب العفوِ أو الأمرِ به على ما قبله، أي إذا كان الأمرُ كما ذُكر فاعفُ عنهم فيما يتعلق بحقوقك كما عفا الله عنهم {واستغفر لَهُمُ} الله فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماماً للشفقة عليهم وإكمالاً للبِرّ بهم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الامر} أي في أمر الحربِ إذ هو المعهودُ، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورةُ عادةً استظهاراً بآرائهم وتطييباً لقلوبهم وتمهيداً لسُنّة المشاورةِ للأُمة. وقرئ {وشاورهم} في بعض الأمر.
{فَإِذَا عَزَمْتَ} أي عَقيبَ المشاورةِ على شيء واطمأنتْ به نفسُك {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في إمضاء أمرِك على ما هو أرشدُ لك وأصلحُ، فإن عِلمَه مختصٌّ به سبحانه وتعالى. وقرئ {فإذا عزمتُ} على صيغة التكلّم أي عزمتُ لك على شيء وأرشدتُك إليه فتوكلْ عليَّ ولا تشاوِرْ بعد ذلك أحداً، والالتفاتُ لتربية المهابةِ وتعليلِ التوكلِ أو الأمرِ به فإن عنوانَ الألوهيةِ الجامعةِ لجميع صفاتِ الكمالِ مستدعٍ للتوكل عليه تعالى أو الأمرِ به {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} عليه تعالى فينصُرهم ويُرشِدهم إلى ما فيه خيرُهم وصلاحُهم. والجملةُ تعليلٌ للتوكل عليه تعالى وقوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت بطريق تلوينِ الخطابِ تشريفاً للمؤمنين لإيجاب توكّلِهم عليه تعالى وحثَّهم على اللَّجَأ إليه وتحذيرِهم عما يُفضي إلى خِذلانه أي إن ينصُركم كما نصركم يومَ بدرٍ فلا أحدَ يغلِبُكم على طريق نفي الجنسِ المنتظِم لنفي جميعِ أفرادِ الغالبِ ذاتاً وصفةً ولو قيل: فلا يغلبُكم أحدٌ لدل على نفي الصفة فقط، ثم المفهومُ من ظاهر النظمِ الكريمِ وإن كان نفيَ مغلوبيّتِهم من غير تعرضٍ لنفي المساواةِ أيضاً، وهو الذي يقتضيه المقامُ لكن المفهومَ منه فهماً قطعياً هو نفيُ المساواةِ وإثباتُ الغالبيةِ للمخاطبين، فإذا قلتَ: لا أكرمُ من فلان أو لا أفضلُ منه فالمفهومُ منه حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضلٍ وهذا أمرٌ مطردٌ في جميع اللغات ولا اختصاصَ له بالنفي الصريحِ بل هو مطردٌ فيما ورد على طريق الاستفهامِ الإنكاريِّ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} في مواقعَ كثيرةٍ من التنزيل، ومما هو نصٌ قاطعٌ فيما ذكرنا ما وقع في سورة هودٍ حيث قيل بعده في حقهم: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الاخرة هُمُ الاخسرون} فإن كونَهم أخسرَ من كل خاسرٍ يستدعي قطعاً كونَهم أظلمَ من كل ظالم {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} كما فعل يومَ أحُدٍ وقرئ {يُخذِلْكم} من أخذله إذا جعله مخذولاً {فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم} استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لانتفاء الناصرِ ذاتاً وصفةً بطريق المبالغة {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد خِذلانه تعالى أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعل لإفادة قصرِه عليه تعالى، والفاءُ لترتيبه أو ترتيبِ الأمرِ به على ما مر من غلبة المخاطَبين على تقدير نُصرتِه تعالى لهم ومغلوبيّتِهم على تقدير خِذلانِه تعالى إياهم، فإن العِلمَ بذلك مما يقتضي قصرَ التوكلِ عليه تعالى لا محالة، والمرادُ بالمؤمنين إما الجنسُ والمخاطبون داخلون فيه دخولاً أولياً وإما هم خاصةً بطريق الالتفاتِ، وأياً ما كان ففيه تشريفٌ لهم بعنوان الإيمانِ اشتراكاً أو استقلالاً، وتعليلٌ لتحتم التوكلِ عليه تعالى فإن وصفَ الإيمانِ مما يوجبه قطعاً.

.تفسير الآية رقم (161):

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}
{وَمَا كَانَ لِنَبِىّ} أي وما صح لنبي من الأنبياء ولا استقام له {أَنْ يَغُلَّ} أي يخونَ في المغنم فإن النبوةَ تنافيه منافاةً بيِّنة، يقال: غَلَّ شيئاً من المغنم يغُل غلولاً وأَغل إغلالاً إذا أخذه خُفْيةً. والمرادُ إما تنزيهُ ساحةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما ظن به الرماةُ يومَ أحُدٍ حين تركوا المركزَ وأفاضوا في الغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقولَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسِمَ الغنائمَ كما لم يقسمْها يوم بدرٍ، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ألم أعهَدْ إليكم أن لا تترُكوا المركزَ حتى يأتيَكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقيةَ إخوانِنا وقوفاً، فقال عليه السلام: بل ظننتم أنا نغُلّ ولا نقسِمُ بينكم» وإما المبالغةُ في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رُوي أنه بعث طلائِعَ فغنِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدهم غنائِمَ فقسمها بين الحاضرين ولم يترك للطلائع شيئاً فنزلت. والمعنى ما كان لنبي أن يعطيَ قوماً من العسكر ويمنَعَ آخَرين بل عليه أن يقسِمَ بين الكلِّ بالسوية، وعُبّر عن حِرمان بعضِ الغزاةِ بالغُلول تغليظاً. وأما ما قيل من أن المرادَ تنزيهُه عليه السلام عما تفوَّه به بعضُ المنافقين إذ رُوي: «أن قَطيفةً حمراءَ فقدت يوم بدر فقال بعضُ المنافقين: لعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذها» فبعيدٌ جداً، وقرئ على البناء للمفعول والمعنى ما كان له أن يوجَدَ غالاًّ أو يُنسَبَ إلى الغُلول.
{وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} يأتِ بالذي غله بعينه يحمِلُه على عنُقه كما ورد في الحديث الشريف وروي أنه عليه السلام قال: «ألا لاَ أعْرِفَنَّ أحدَكُم يأتي ببعير له رُغاءٌ وببقرةٍ لها خُوارٌ وبشاة لها ثُغاءٌ فينادي يا محمد فأقول: لا أملِك لك من الله شيئاً فقد بلّغتُك» أو يأتِ بما احتمل من إثمه ووبالِه {ثُمَّ توفَّى كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي تعطى وافياً جزاءَ ما كسبت خيراً أو شراً كثيراً أو يسيراً، ووضعُ المكسوبِ موضعَ جزائِه تحقيقاً للعدْل ببيان ما بينهما من تمام التناسُبِ كمّاً وكيفاً كأنهما شيءٌ واحد. وفي إسناد التَوْفيةِ إلى كل كاسبٍ وتعليقِها بكل مكسوبٍ مع أن المقصودَ بيانُ حالِ الغالِّ عند إتيانِه بما غله يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأنِ اليومِ وهولِ مطلَعِه والمبالغةِ في بيان فظاعةِ حالِ الغالِّ ما لا يخفى، فإنه حيث وُفيّ كلُّ كاسبٍ جزاءَ ما كسبه ولم يُنْقَصْ منه شيءٌ، وإن كان جُرْمُه في غاية القِلّة والحقارةِ، فلأَنْ لا يُنقَصَ من جزاء الغالِّ شيءٌ وجُرمُه من أعظم الجرائم أظهرُ وأجلى {وَهُمْ} أي كلُّ الناسِ المدلولِ عليهم بكل نفس {لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عقابٍ أو بنقص ثواب.

.تفسير الآيات (162- 164):

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}
{أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} أي سعى في تحصيله وانتحى نحوَه حيثما كان بفعل الطاعاتِ وتركِ المنكرات كالنبي ومن يسير بسيرته {كَمَن بَاء} أي رجع {بِسَخْطٍ} عظيم لا يقادَرُ قدرُه كائنٍ {مِنَ الله} تعالى بسبب معاصيه كالغالِّ ومن يَدين بدينه، والمرادُ تأكيدُ نفي الغلولِ عن النبي عليه الصلاة والسلام وتقريرُه بتحقيق المباينةِ الكليةِ بينه وبين الغالِّ حيث وُصف كلٌّ منهما بنقيض ما وُصف به الآخَرُ فقوبل رضوانُه تعالى بسَخَطه، والاتِّباعُ بالبَوْء، والجمع بين الهمزةِ والفاءِ لتوجيه الإنكارِ إلى ترتب توهُّمِ المماثلةِ بينهما والحُكمِ بها على ما ذُكر من حال الغالِّ كأنه قيل: أبعد ظهورِ حالِهِ يكونُ مَنْ ترقّى إلى أعلى عِلِّيين كمَنْ ترَدَّى إلى أسفلِ سافلين؟ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لإدخال الرَّوْعةِ وتربيةِ المهابة {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} إما كلامٌ مستأنَفٌ مَسوقٌ لبيان مآلِ أمْرِ مَنْ باء بسَخَطه تعالى، وإما معطوفٌ على قوله تعالى باء بسخط عطفَ الصِلةِ الاسميةِ على الفعلية، وأياً ما كان فلا محلَّ له من الإعراب {وَبِئْسَ المصير} اعتراضٌ تذييليٌّ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي وبئس المصيرُ جهنمُ، والفرقُ بينه وبين المرجِعِ أو الأولَ يُعتبر فيه الرجوعُ على خلاف الحالةِ الأولى بخلاف الثاني.
{هُمْ} راجعٌ إلى الموصولَين باعتبار المعنى {درجات عِندَ الله} أي طبقاتٌ متفاوتةٌ في علمه تعالى وحُكمِه، شُبِّهوا في تفاوت الأحوالِ وتبايُنِها بالدرجات مبالغةً وإيذاناً بأن بينهم تفاوتاً ذاتياً كالدرجات أو ذوو درجاتٍ {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال ودرجاتِها فيجازيهم بحسبها.
{لَقَدْ مَنَّ الله} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله لقد منّ الله أي أنعم {عَلَى المؤمنين} أي من قومه عليه السلام {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} أي من نسبَهم أو من جنسهم عربياً مثلَهم ليفقهوا كلامَه بسهولة ليكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانةِ مفتخرين به، وفي ذلك شرف لهم عظيم، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} وقرئ {من أنفَسِهم} أي أشرافهم فإنه عليه السلام كان من أشرف قبائلِ العربِ وبطونِها وقرئ {لَمِنْ منِّ الله على المؤمنين إذ بعث} الخ، على أنه خبر لمبتدأ محذوفٍ أي منُّه إذ بعث الخ، أو على أن إذ في محل الرفعِ على الابتداء بمعنى لمن منّ الله عليه من المؤمنين وقتُ بعثِه، وتخصيصُهم بالامتنان مع عموم نعمةِ البعثةِ الأسود والأحمرِ لما مرّ من مزيد انتفاعِهم بها وقوله تعالى: {مّنْ أَنفُسِهِمْ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لرسولاً أي كائناً من أنفسهم وقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته} صفةٌ أخرى أي يتلو عليهم القرآنَ بعد ما كانوا أهلَ جاهليةٍ لم يطرُق أسماعَهم شيءٌ من الوحي {وَيُزَكّيهِمْ} عطفٌ على يتلو أي يطهرهم من دنس الطبائعِ وسوءِ العقائدِ وأوضارِ الأوزار {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} أي القرآنَ والسنةَ وهو صفةٌ أخرى لرسولاً مترتبةٌ في الوجود على التلاوة، وإنما وُسِّط بينهما التزكيةُ التي هي عبارةٌ عن تكميل النفسِ بحسَب القوةِ العلميةِ وتهذيبِها المتفرِّعَ على تكميلها بحسَب القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليم المترتبِ على التلاوة، للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الأمور المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالها مستوجِبةٌ للشكر فلو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ} لتبادر إلى الفهم عدُّ الجميعِ نعمةً واحدةً، وهو السرُّ في التعبير عن القرآن بالآياتِ تارةً وبالكتاب والحكمةِ تارةً أخرى رمزاً إلى أنه باعتبار كلِّ عنوانٍ نعمةٌ على حِدَة، ولا يقدح في ذلك شمولُ الحكمةِ لما في مطاوي الأحاديثِ الكريمةِ من الشرائع كما سلف في سورة البقرة {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ} أي من قبلِ بعثتِه عليه السلام وتزليتِه وتعليمِه {لَفِى ضلال مُّبِينٍ} أي بيِّن لا ريب في كونه ضلالاً وإن هي المخففةُ من الثقيلة، وضميرُ الشأنِ محذوفٌ واللامُ فارقةٌ بينها وبين النافية، والظرفُ الأولُ لغوٌ متعلقٌ بكان، والثاني خبرُها وهي مع خبرها خبرٌ لأن المخففة التي حُذف اسمُها أعني ضميرَ الشأن، وقيل: هي نافية واللامُ بمعنى إلا، أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، وأياً ما كان فالجملةُ إما حالٌ من الضمير المنصوبِ في يعلمهم أو مستأنفةٌ، وعلى التقديرين فهي مبيِّنة لكمال النعمةِ وتمامِها.